ولاية الفقيه والأبعاد الفلسفية والسياسية للتمهيد
الدكتور محمد عبداللاوي
مدخل إن هذه المرحلة التاريخية هي مرحلة الوقاحة السياسية التي هيمن الغرب عن طريقها على العالم، إلى درجة أن نظرية نهاية التاريخ أقفلت التاريخ و كأن محور طنجة- جاكارتا لا وجود له، لأن البشرية بالنسبة للغرب أصبحت تعيش في عصر بديهيات فصل الدين عن السياسة و نسبية القيم الأخلاقية. في هذا العصر تأسست دولة الثورة الإسلامية على ثوابت العقيدة و الأخلاق و أصبح الشعب الإيراني لا يحمل أسئلته الخاصة به فحسب بل يحمل أسئلة كونية و يتطلع نحو مصير كوني: إيران القضية و الرؤية تجاوزت إيران الجغرافية، فالأمة الإسلامية أصبحت منذ الثورة الإسلامية تفكر الحاضر بالمستقبل، وأصبح هذا التفكير بالمستقبل متجسدا في مؤسسات الجمهورية الإسلامية و في دستورها، أي أصبح تمهيدا و تحولت الحالة الانتظارية إلى حالة تمهيدية لتحقيق مشروع.
1. ولاية الفقيه و حقيقة التمهيد
و هنا تتجلى حقيقة ولاية الفقيه و حقيقة دورها و حقيقة مفهوم التمهيد الملازم لمفهوم الولاية.
لقد حولت ولاية الفقيه محاولة توحيد الأمة و تقدمها من طوباويات المدن الفاضلة إلى " تمهيد "، فولاية الفقيه حررت الأمة من الطرح المزيف: الخيار بين التفاؤل الطوباوي والتشاؤم الأعمى، فالشعوب يئست من الأنظمة السياسية الحاكمة، ومن هنا التناقض بين " الانتظار " والأنظمة السياسية، فالانتظار كتطلع عقائدي لا يضاهيه أي تطلع، فهو يقتضي نظاما سياسيا قائما على التفاعل بين المجتمع و الدولة تفاعلا انتمائيا ينبع من ذات الفرد عن اقتناع داخلي، وهذه هي حقيقة العلاقة بين الدين والسياسة والمجتمع والدولة التي تتمحور حول ولاية الفقيه، أي حقيقة الديمقراطية الدينية التي تربط عصر الغيبة بالإمامة عن طريق ولاية الفقيه، إن التساؤل عن علاقة الأمة بالامامة و عن علاقة الأمة بالمستقبل الموعود: هذان السؤالان متلازمان و خطيران لأن على أساس الإجابة عليهما يتعلق مصير المسلمين، بل مصير كل البشرية.
لقد جاءت الثورة الإسلامية كإجابة على هذه الأسئلة. فالثورة بقيادة ولاية الفقيه، والدولة بتمحورها حول ولاية الفقيه: هذه هي الحقيقة العقائدية والعقلية والعملية والسياسية والتاريخية لصورة علاقة الأمة بالإمامة و بالواقع و بالمستقبل الموعود، فخارج هذه الصورة يفتح الباب على مصراعيه للتخلي عن ثوابت خط أهل البيت(علیهم السلام): التخلي عن مفهوم الغيبة ومفهوم الانتظار ومفهوم ولاية الفقيه كنيابة عن الإمامة، فالنيابة تقتضي القيادة ورسم الآفاق لا مجرد النصيحة للمسؤولين والدعاء لهم فيتحول الولي، لا سمح الله، إلى واعظ للسلاطين! فهذه الرؤية تحول ولاية الفقيه إلى مجرد حالة تفكر اليوم لليوم ولا تفكر الحاضر بالمستقبل، فالمساس بصلاحيات ولاية الفقيه هو بمثابة قتل لمستقبل المسلمين والبشرية، فلا دولة ممهدة بدون قيادة ولاية الفقيه ولا إستراتيجية للتمهيد بدون ولاية الفقيه، لأن ولاية الفقيه هي " النيابة ". فدورها بحجم المشروع الكوني، فالتركيبة العقائدية والتاريخية لولاية الفقيه تحمل قيما ومفاهيم تؤسس لنظام سياسي إعجازي وتؤسس لإستراتجية في مستوى وحجم هذا النظام السياسي، إن ولاية الفقيه لا تحملها الأحداث، ليست مجرد منتوج تاريخي بل هي " اجتهاد " و" نيابة " أي فكرا ينشط في إطار معنى عقائدي وعقلي للتاريخ والسياسة، لذلك فالولاية توجه التاريخ، هي قوة فاعلة وليست منفعلة. إن الولي الفقيه يستوعب بعمق معنى التاريخ: عقائديا وتاريخيا، فالولي الفقيه يقوم بدوره كنائب عن الإمام. هذه هي حقيقة ولاية الفقيه، فالمسألة ليست مسألة شخص زعيم أو حزب أو منتوج صراع سياسي. فالولي يتجاوز مرحلة الحكومة ويتجاوز حالة ومرحلة الحزب، بل يتجاوز حتى المرحلة التاريخية. فالولاية مسؤولة عن العصر وعن المستقبل: مستقبل إيران و العالم الإسلامي و البشرية كلها. لذلك تفكر دولة الولي الفقيه بمنطق التفكير الاستراتيجي المتفاعل مع منطق القيم الأخلاقية، فولاية الفقيه هي وحدها القادرة والمؤهلة لتوجيه حركة التاريخ نحو المستقبل الموعود.
يمكن القول في هذا السياق بان فصل الدين عن السياسة أنتج في العالم الإسلامي التخلف و التبعية و الاستبداد، لكن عدم الفصل بين الدين و السياسة بصورة غير اجتهادية بالمعنى العقائدي و المعرفي، أنتج ثيوقراطية مقنعة بالمؤسسات، هذا الطرح لعلاقة الدين بالسياسة هو من المصادر الأساسية لمآسي المسلمين. الثورة الإسلامية فتحت المجال لتحرير المسلمين من هذه الأزمة القاتلة عندما ربطت السياسة بالدين عن طريق الاجتهاد كما يتجلى اليوم في قيادة ولاية الفقيه. إن الصورة الاجتهادية لعلاقة الدين بالسياسة تنفي الثيوقراطية بصورة جذرية و تنفي كذلك السياسة التي تكفي نفسها بنفسها عن طريق الأغلبية كمرجعية مطلقة . و هذا ما يتجلى في تبني النظام السياسي في إيران الديمقراطية الدينية كأداة للتمهيد و ليس للديمقراطية بإطلاق. و معنى هذا أنه لا يمكن لأي نظام سياسي اليوم أن يتمتع بالطاقة المستقبلية مثل ما يتمتع به النظام السياسي الإيراني.
لقد أصبحت كل النظريات السياسية نظريات تابعة للمجتمع و حركته عبر التاريخ، في حين أن ما يجري في إيران، خاصة منذ قيام الثورة الإسلامية، أن الفكر السياسي (نظرية ولاية الفقيه) هو الذي يقود المجتمع لأن النظرية السياسية التي تتمحور حول ولاية الفقيه تتمتع بالطاقة القيمية والمفاهيمية التي تجعل دورها دورا قياديا يرسم الآفاق للدولة، فمن التناقض تصور ولاية الفقيه من حيث هي نيابة تابعة للمجتمع و للتاريخ، أي مجرد انعكاس للواقع. لأن الواقع هو دائما ما يجب تغييره ولأن التاريخ اليوم (أي التاريخ القائم و المهيمن) هو المصير الذي تريد أن تفرضه أمريكا على العالم.
و هكذا فولاية الفقيه تتجاوز حدود القيادة السياسية و تتجاوز الدور الاستراتيجي لهذه القيادة. فالولاية عصر. هي عصر الغيبة، فولاية الفقيه تقود عصرا إلى عصر آخر، أي تقود عصر الغيبة إلى عصر الظهور، فالمستقبل المهدوي يبقى دائما هو مصير الأمة و العالم، و لا يمكن لأي نظام سياسي أن يقود الأمة نحو هذا المستقبل العقائدي إذا لم يكن متفاعلا عقائديا و معرفيا مع هذا المستقبل، إذا لم يكن جزءا منه. وولاية الفقيه هي وحدها التي تحقق هذه الشروط .فولاية الفقيه لايمكن فهم حقيقتها ودورها بدون عصر الغيبة،ودولة عصر الغيبة لايمكن فهم حقيقة دورها وقيادتها بدون ولاية الفقيه التي تتميز علاقتها بالزمان السياسي و الزمان التاريخي عن طريق الزمان المهدوي و ما يقتضيه من إستراتيجية المسافات البعيدة. هذه الإستراتيجية ليست حالة انتخابية أو مجرد تنظير، بل هي حالة عقائدية واجتهادية تقتضي المعرفة والانتماء العقائدي لا مجرد الانتماء السياسي. لذلك يؤكد دستور الجمهورية الإسلامية على الدور المحوري والقيادي لولاية الفقيه في مجال رسم إستراتيجية الدولة في المجالات الأساسية والمصيرية. هذه الإستراتيجية ذات طاقة قيمية ومستقبلية تجعل الجمهورية الإسلامية تسير أحيانا في مسار معاكس لمصالح إيران في حدودها الوطنية، مثلا مجابهتها لإسرائيل ولأمريكا والعقوبات بل والحروب المترتبة عن ذلك، بل والعداء الشديد للأنظمة العربية لإيران في حين أن موقف الجمهورية الإسلامية هو ما تريده الشعوب العربية والإسلامية.
إن التركيبة العقائدية و التاريخية لولاية الفقيه هي التي تهيؤها لتصور آفاق مستقبلية و دورا استراتيجيا للجمهورية الإسلامية في القرن الحادي و العشرين من موقع رؤية بديلة إلى حركة التاريخ تتجاوز التاريخ المهيمن الذي جعل مصيرالبشرية مصيرا أمريكيا عن طريق نظرية نهاية التاريخ . فإستراتيجية الجمهورية الإسلامية هي النقيض لروح العصر بالمعنى الهيجلي و الأمريكي: هي إستراتيجية التأسيس لما يجب أن يكون عليه العصر لأن الجمهورية الإسلامية هي دولة التمهيد أي دولة التطلع.
2. التمهيد وإستراتيجية إعادة البناء
فالاجتهاد يحرر ولاية الفقيه من الأسر الفكري لروح العصر ويفتحها على الإبداع و إدراك آفاق دولة التمهيد عن طريق تصور المستقبل و تحديد توجهاته. فالاجتهاد الذي يقوم على أساس علاقة النص الموحي بالتاريخ و الثابت بالمتغير، يتمتع بالطاقة المعرفية التي تسمح له بترجيح التوجهات المستقبلية التي تجعل الدولة في وضعية تمهيد أي في وضعية إعادة البناء. وهذا عكس الأنظمة السياسية السائدة في العالم الإسلامي التي لا تتجاوز حدود التابع للغرب والمستجيب لمصالحه. فإذا كانت الجمهورية الإسلامية دولة ممهدة. أي دولة تسير في مسار الثورة وإعادة البناء فإن دول الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي تسير في اتجاه معاكس: مسار التراجع والهدم لمستقبل الشعوب، فولاية الفقيه فتحت الطريق للمأسسة لنظام عالمي جديد من خلال نقدها لمنظمة الأمم المتحدة ولحقوق الإنسان ولمنظمة العدل الدولية. الولاية انتقدت هذه المؤسسات من حيث هي مؤسسات تغلق الآفاق أمام الشعوب المستضعفة وتوظف للحفاظ على مصالح الأقوياء. وهذا يدل على أن الجمهورية الإسلامية ليست نظاما سياسيا لمشاريع صغيرة قومية أو إقليمية بل هي نظام سياسي لدولة ممهدة تؤسس لكونية جديدة غير الكونية الغربية وتؤسس لحداثة جديدة غير الحداثة الغربية. فالدولة الممهدة تدرك بعمق عقائدي أن هذا التاريخ ليس هو التاريخ الصحيح، ليس هو تاريخ الحقيقة، فهو لا يتخذ موقعه في مسار استمرارية مرجعية الرسالة والإمامة، لذلك فهو ليس تاريخ تحقق الأمة وتطورها، ففي هذا السياق تستمد إستراتيجية إعادة البناء كل معانيها العقائدية والأخلاقية والسياسية.
إن وجود الإمام المهدي(عح) في عصر الغيبة عن طريق النيابة (ولاية الفقيه) يعني وجود 'النفي' أي رفض الواقع كأمر واقع. وهذا يؤدي وقد أدى بالفعل إلى إستراتيجية معيارية السياسة ومعيارية توجيه الدولة في خط الثورة، أي إستراتيجية تحرير الممارسة السياسية من السير في مسار الخضوع للواقع أو التكيف معه كأمر واقع. وهكذا فالرفض المهدوي هو رفض إبداعي فجر الثورة وأسس الدولة، فهو ليس مجرد رفض ظرفي ينتج الهروب التعويضي من الواقع القاسي، فالرفض المهدوي أنتج إستراتيجية التجاوز، لكن هذا التجاوز له خصوصيته لأنه يختلف عن كل أنواع التجاوز التي أنجزت التغيير وأنتجت الثورات على غرار الثورة الفرنسية والثورة البلشوفية والثورة الصينية لأن التجاوز الملازم للمهدوية والمتجسد اليوم في إيران في الدولة الممهدة وإستراتيجيتها هو تجاوز يستمد مصدره من ما يتجاوز التاريخ لامن التاريخ. ويمكن القول في هذا السياق بأن إستراتيجية الدولة الممهدة متحررة من العوامل التاريخية من موقع توجيهها لامن موقع الخضوع لها. فإستراتيجية التمهيد تستوعب الآفاق بصورة استباقية منقطعة النظير بفضل ربطها للعوامل التاريخية بالعلامات : علامات الظهور، وهذا ما يجعل من إستراتيجية التمهيد إستراتيجية البديل الكوني الذي لا يخضع للتركيب بين الليبرالية والماركسية بل يتجاوز كل البدائل، فإذا كان الواقع القائم اليوم يثبت أن حقيقة التاريخ المهين تستمد مصدرها من القوة والعنف وان السياسة الملازمة لهذا التاريخ هي سياسة مبنية على القوة والمعايير المزدوجة وقهر الآخر، فإن إستراتيجية الجمهورية الإسلامية تؤسس لتاريخ آخر ولحقيقة أخرى مبنية على القيم وعلى القانون وعلى العدالة في مجال العلاقة بين الدولة والمجتمع وفي مجال العلاقات الدولية.
لذلك يمكن القول بأن المهدوية تتجاوز المثالية. فإيران تقدم في هذا العصر حالة استثنائية في مجال علاقة السياسة بالمستقبل وعلاقة الواقعي بالمثالي، فعادة يصعب، إن لم يستحيل تصور مؤسسات تسعى إلى تجسيد نموذج سياسي وحضاري مثالي على غرار دولة الإمام المهدي(عح) من موقع التمهيد، فإدخال المؤسسات في قيم ومقولات نموذج مثالي عملية توصف عادة بأنها مثالية مجردة أو طوباوية وخيال، لكن الواقع يثبت منذ قيام الثورة الإسلامية أن هذا ما تحاوله التجربة السياسية في إيران، وهذا ما تحاوله الإستراتيجية الموجهة لهذه التجربة، ففي هذا السياق هناك تفاعل بين الواقعي والمثالي وليست هناك قطيعة بينهما، وترجع أسباب هذه الظاهرة الاستثنائية إلى الطموح التاريخي للشعب الإيراني وإلى حقيقة وتركيبة القيادة (ولاية الفقيه) ودولتها، إضافة إلى ما تقدم فإن هذه المثالية التي هي في تحقق مستمر عن طريق المؤسسات تقوم على أساس علاقة انتمائية وتفاعلية بين المجتمع والدولة، أي على أساس الديمقراطية الدينية، في حين أن التجربة تثبت أنه كلما كانت القيادة مثالية كلما كانت أكثر استبدادا، فالمستبد هو المثالي بلا منازع والمثالية مثالية قاتلة . مثلا الثورة الفرنسية ودولتها ونفس الأمر بالنسبة للثورة الاشتراكية. وهكذا فالنظام السياسي الإسلامي في إيران هو نظام سياسي إعجازي يتحقق عن طريق إستراتيجية منقطعة النظير لأنها إستراتيجية تسعى إلى تحقيق السياسة بمعناها الحقيقي، أي السياسة التي تلتزم بالقيم العقائدية والأخلاقية. سياسة تعيد بناء تاريخ معاكس لروح العصر، أي للعصر الأمريكي، ولكن رغم ذلك فإن هذه الممارسة السياسية (التمهيد) ليست طوباوية أو حلما. أي ليست رفضا لحركة التاريخ بل هي نقد ورفض لحركة التاريخ بالمعنى الغربي الهيجلي. أي هي رفض جذري لروح العصر بالمعنى الهيجلي، فالممارسة السياسية والإستراتيجية للجمهورية الإسلامية تسعى إلى اتخاذ موقعها في حركة الأمة عبر التاريخ انطلاقا من الخط الرسالي الذي جسده أهل البيت(علیهم السلام). فليس هناك رفض مطلق ولا مشروط للتاريخ، بل هناك رفض للتاريخ المهيمن باسم التاريخ البديل الذي يجسد حقيقة الأمة الإسلامية كأمة في
تحقق مستمر.
في هذا السياق تتجلى حقيقة علاقة الدولة بالثورة الإسلامية. لقد أسست ولاية الفقيه لديمقراطية تجسد القيم الروحية والأخلاقية والسياسية للتوحيد ولم تتركها للأغلبية فحسب، لأن الأغلبية إذا كانت شرطا ضروريا للديمقراطية فإنها ليست شرطا كافيا، وإذا كان المجتمع اليوناني قد صاغ مقولات العقل، والثورة الفرنسية قد أسست حكما جمهوريا وحاولت أن تكون ثورة كونية أكثر منها ثورة فرنسية أو أوربية، وهذا ما جعل هيجل يرى بأن أوربا هي نهاية للتاريخ. غير أن الثورة الفرنسية أنتجت القومية والاستعمار.
ومن هنا فهي ثورة لا مستقبل لها، ونفس الأمر بالنسبة للثورة الماركسية. فكل هذه الثورات رغم كثير من إيجابياتها هي ثورات محدودة الأفق ولا مستقبل لها بسبب غياب المرجعية الضرورية والكافية. إذا كان الأمر كذلك فإن الثورة الإسلامية أسست لرؤية جديدة إلى السياسة وإلى الدولة والديمقراطية والعلاقات الدولية، فالجمهورية الاسلامية إسلامية ولا صفة أخرى لها كما اكد الإمام الخميني(ره)، وهذه هي الحقيقة الكونية لدولة ما بعد الثورة الاسلامية، فهي دولة المعنى: معنى السياسة ومعنى التاريخ ومن هنا كونية قيادتها (ولاية الفقيه) وكونية آفاقها المستقبلية، لذلك فالثورة الإسلامية لن تقف
عند إيران .
هي ثورة تعيد صنع التاريخ وتعيد بناء الأمة الإسلامية كمجتمع مفتوح نحو كل الشعوب والثقافات، وهذه هي الكونية الحقيقية الملازمة للدولة الممهدة بقيادة ولاية الفقيه. فإعادة بناء الأمة الإسلامية هي إعادة بناء منفتحة على البشرية كلها لأن الأمة الإسلامية مجتمع كوني وليست شعب الله المختار أو الأرض الموعودة.
إيران تساءلت: طرحت السؤال المنتج للفكر وللممارسة في عصر موت السؤال وإقفال التاريخ، لقد انتهى القرن العشرون ولم يحسم الفكر الغربي موقفه حول معنى التاريخ وموقع السياسة في هذا المعنى للتاريخ، لقد تأرجح هذا الموقف بين نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما ونظرية صدام الحضارات لسامويل هنتنجتون، فالبشرية بالنسبة لفوكوياما بدأت تعيش نهاية التاريخ بعد سقوط جدار برلين، في حين يتوقع هنتنجتون صراعا حضاريا يتخذ موقعه بديلا للصراع الإيديولوجي والاقتصادي بين الشرق والغرب، فما هو موقع العالم الإسلامي من هذه الصيغة الجديدة للعالم؟ لا وجود لدولة في العالم الإسلامي تطرح هذا السؤال بصورة جدية وبناءة باستثناء النظام السياسي في إيران. أي لا وجود في العالم الإسلامي، وفي العالم على العموم، لرؤية أخرى غير الرؤية الغربية لنهاية التاريخ وصدام الحضارات، لرؤية تتم ممارستها سياسيا وثقافيا باستثناء إيران، فإيران أسست لرؤية جديدة إلى التاريخ غير الرؤية الغربية أي غير الرؤية الهيجلية والماركسية.
إن القرن الواحد والعشرين هو قرن إيران والأمة الإسلامية، لأن إيران نظرت ومارست عن طريق الدولة الممهدة المتمحورة حول ولاية الفقيه لعلاقة الدين بالسياسة والواقع بالمثال والفرد بالمجتمع وعلاقة الدولة بالمجتمع والديمقراطية بالدين والأمة بالآخر، وحقيقة الحرية. فكل هذه القضايا لم يستطع الفكر الغربي أن يجد حلا لها، بل اصطدم بالانسداد بسبب اعتماده على العقل الوضعي المنقطع عن الله. لقد أعطت إيران موقعا للشعوب الإسلامية على الصعيد العالمي الذي يسيطر عليه الغرب، فإيران أعطت للعالم الإسلامي وجودا سياسيا وثقافيا، العالم الإسلامي بدأ يعود إلى التاريخ عن طريق الثورة الإسلامية ودولتها، عاد إلى التاريخ بعد أن خرج منه بسبب تأرجحه في المجال السياسي بين واشنطن وموسكو. أي بين الرأسمالية والاشتراكية الماركسية. ففي زمان موت الطوباوية والرعب من المستقبل أعادت ولاية الفقيه الأمل والطموح إلى الأمة بتأسيسها للدولة الممهدة، دولة تحقق المستقبل الموعود.
وهكذا أجابت ولاية الفقيه، نظريا وعمليا، عن أكبر وأعقد سؤال عجزت عن الإجابة عنه كل الأنظمة السياسية وكل الثورات: ماذا بعد الثورة؟
كان التحدي الذي ينتظر الثورة الإسلامية إعطاء دولة في حجم هذه الثورة، فجاءت الجمهورية الإسلامية بقيادة ولاية الفقيه كاستمرار للثورة، أي كدولة ممهدة، فحجم الثورة الإسلامية بمبادئها وأهدافها لا يمكن أن تجسده إلا سياسة التمهيد: التمهيد لمشروع كوني بقيادة كونية، كونية ولاية الفقيه كنيابة.
لقد أنهى الفكر الغربي التنظير للسياسة والاقتصاد بعد أن أنهى الميتافيزيقيا عن طريق العقل الوضعي. فالفكر الغربي حسم الأمر بإنهائه للتاريخ أي إنهائه لكل تطلع نحو نموذج خارج النموذج الليبيرالي الأمريكي وخارج العقل المنفصل عن الغيب، في هذا الجو العدمي الذي قتل الإنسان بعد أن قتل الألوهية جاءت الثورة الإسلامية وأسست دولة تضع الإنسان الذي صاغه الفكر السياسي في القرن العشرين والذي حوله الغرب إلى مجرد أداة اقتصادية، لتضع هذا الإنسان موضوع سؤال، هذا السؤال أتى بالإجابة عن تطلع الإنسانية اليوم إلى 'المعنى': معنى الإنسان ومعنى التاريخ ومعنى السياسة.
3. التمهيد نقيض للتحديث
لا يمكن تأسيس دولة وصياغة إستراتيجية محررة للشعوب الإسلامية بدون نقد جذري للحداثة. فالتمهيد الذي يغير التاريخ هو التمهيد الذي يقوم على عقل غير عقل الأنوار، أي عقل الحداثة جملة وتفصيلة.
لقد قدمت ولاية الفقيه مشروعا سياسيا وحضاريا جديدا، مشروعا نقديا وإنقاذيا، كل النظريات استهلكت رغم أنها وصلت إلى مستوى القداسة، هذا العصر في حالة انتظار كوني لنظرية جديدة في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي. فالمشروع البديل الذي يتمتع وحده في هذا العصر بالقدرة على تجاوز أزمة الفكر المعاصر وتجاوز انسداد الأفق هو مشروع ولاية الفقيه.
لذلك يمكن القول بأن تحديث إيران هو قتل للأمة الإسلامية ولمستقبل البشرية كلها، فالفكر الملازم لولاية الفقيه هو الفكر الوحيد اليوم الذي يتمتع بالقدرة على فتح الطريق لحل مشاكل وقضايا العصر. فولاية الفقيه بنقدها لعقل الأنوار واعتمادها على العقل المنفتح على الله قد كسرت الانسداد الذي اصطدمت به الحداثة وما بعد الحداثة وفتحت الأفق لإنقاذ البشرية.
إن الفكر الغربي لم يع بعد بأن انفتاحه على إيران ضروري لمصير العالم، فإيران اليوم هي ما بعد بعد الحداثة. أي ما بعد عقل الأنوار وما بعد فلسفة كانط وهيجل وماركس وفوكوياما .
فمن هذا المنظور أن النظام السياسي الإيراني " بنيان مرصوص " وأن إيران هي نور الله الذي لا يمكن إطفاؤه.
وهكذا فهناك أزمة قاتلة تقتضي حلا جذريا، فالأفق مسدود ولا يمكن تجاوزه إلا عن طريق ما يتجاوز التاريخ. وهذه هي حقيقة الفكر الاجتهادي الذي تقوم على أساسه عملية التمهيد، ودولة التمهيد. فالزمان السياسي في إيران ليس زمان التاريخ الذي أسست له فلسفات التاريخ في الغرب، بل هو زمان سياسي مهدوي بقيادة ولاية الفقيه، أي بقيادة فكر تتجاوز مرجعيته التاريخ. فلو كان العقل المنظر للجمهورية الإسلامية مجرد عقل ينتج المعرفة نتيجة للعلاقة بين الذات والموضوع، لو كان الأمر كذلك لما أمكن تصور أية محاولة لإعادة بناء الدولة والمجتمع خارج الحداثة، ولتحولت إيران إلى تابع للغرب ومستغرقا في التاريخ المهيمن، ولكن الجمهورية الإسلامية هي دولة ولاية الفقيه، أي دولة الفكر الاجتهادي الذي يتجاوز ثنائية الذات والموضوع أو الفكر والموضوع. ففكر ولاية الفقيه هو فكر "نيابة اجتهادية"، فهذا المفهوم لا يستمد مرجعيته من التاريخ فحسب بل من ما يتجاوز التاريخ أي من النص الموحى ومن عصمة النبؤة وعصمة الإمامة . ومن هنا عمق النقد الذي توجهه ولاية الفقيه للعقل الوضعي وللحداثة على العموم. فالنقد أسس للقطيعة مع التحديث وفتح المجال للتغيير والتجديد، لذلك لا يمكن أن يكون التمهيد مجرد تكيف، أي لا يمكن أن يكون تحديثا فيصطدم بالعدمية و الرعب من المستقبل و مآسي نظرية نهاية التاريخ، لقد تسرع العقل الغربي فأنهى التاريخ موازاة بسقوط جدار برلين: فكل شيء يجب أن يكون بالمنظور الغربي في صورته الأمريكية. في حين أن ولاية الفقيه رأت في سقوط جدار برلين نهاية للتاريخ الهيجلي و الماركسي و فتح المجال لتجاوز التحديث عن طريق التمهيد، فمن منظور ولاية الفقيه إن البشرية دخلت، بعد سقوط جدار برلين، في مرحلة تحتاج إلى رؤية جديدة في مجال القيم و الثقافة و السياسة . فالنموذجية لا تكمن في الديمقراطية اللبرالية و لا تكمن في الوحدة الأوربية. فهذان النموذجان هما مجرد استمرار للاستعمار و استغلال الشعوب. فالنموذجية بدأت تتأسس في إيران عن طريق دولة الثورة، أي الدولة التي أدخلت الأمة في مرحلة التمهيد. أي مرحلة التغيير و التجديد و ليس التحديث. فهناك في إيران اليوم رؤية خارج الحداثة إلى الثقافة و السياسة و التقدم و الدين و التاريخ والعلم والتكنولوجيا والعمل والإنتاج والاستهلاك وحقيقة الفرد والمجتمع.
فالجمهورية الإسلامية دولة " أخرجت " لتبقى، إستراتيجيتها ليست إستراتيجية حزب أو دولة قطرية بل هي إستراتيجية دولة تؤسس لتاريخ جديد.
4. التمهيد و آفاق استحقاق الإمداد الغيبي:
إن هذا التأسيس لتاريخ جديد يتخذ موقعه في مسار التطلع نحو استحقاق الإمداد الغيبي، مسؤولية الأمة حاضرة في عصر الغيبة المهيء للظهور لأن العوامل التاريخية حاضرة و هي ضرورية لدفع الأمة في مسار الظهور ولكنها غير كافية . إن تدخل الإنسان لاستحقاق الإمداد الغيبي يخرج الظهور من التسلسل الحتمي للأحداث ليجعل منه " انبثاقا " على غرار النبوءة . إذن هناك إستراتيجية في التعامل مع المسار الحتمي للتاريخ و هناك إستراتيجية مسار الاستحقاق. وهذه الإستراتيجية الأخيرة هي التي تلازم التمهيد بقيادة ولاية الفقيه. فعلاقة الواقعي بالمثالي، أي علاقة الأمة بالمستقبل الموعود تتم من خلال ممارسة الأمة في التاريخ ومع التعامل مع عوامل التاريخ لتصل إلى مرحلة استحقاق الإمداد الغيبي، فتغيير العالم ليس هو الهدف الأسمى والنهائي على غرار المهدويات الوضعية من ليبرالية واشتراكية. في المهدوية الإسلامية تغيير العالم مرحلة في المسار نحو هدف كوني لا يمكن أن تحققه كل المحاولات البشرية عبر التاريخ إذا كانت مرجعيتها في حدود التاريخ والمجتمع دون البعد المتعالي. أي دون البعد الغيبي. فتغيير العالم في هذا السياق (سياق التمهيد) يفتح المجال للاستحقاق أي للإمداد الغيبي الضروري والكافي لإحداث التغيير الكوني (الظهور) الذي لا تستطيع الحتمية التاريخية أن تحققه و تصل إليه.
وهكذا فالهدف من إعادة البناء (دولة الثورة أو دولة التمهيد) ليس هدفا طوباويا على غرار المدن الفاضلة، و ليس هدفا تنتجه الحتمية التاريخية بل هو هدف « منتظر» انتظارا عقائديا يقتضي حضور مسؤولية الإنسان و التزامه، أي يقتضي التمهيد و قيادة التمهيد.
هذه الرؤية تضع العلوم الاجتماعية موضوع سؤال، فالمهدوية تتجاوز إمكانيات المنهج العلمي الذي تعتمد عليه العلوم الاجتماعية، هذه العلوم عاجزة عن فهم حقيقة المهدوية التي تتضمن تدخل العوامل التاريخية في أفق استحقاق الإمداد الغيبي الذي يخرج الظهور من حتمية التاريخ، أي من التلازم الحتمي بين المراحل التاريخية. أي من التلازم بين المقدمات والنتائج لأن الظهور انبثاق، لكنه انبثاق يقتضي حضور مسؤولية الإنسان وتدخله في مجرى الأحداث. هذا التدخل يتخذ معنى الانتظار الايجابي. أي التمهيد، مفهوم التمهيد يعني أن التاريخ منفتح على ما يتجاوزه، فالتمهيد ظاهر باطنه الظهور كانبثاق يتجاوز حتمية حركة التاريخ. لذلك تعتمد الأمة على الفعل وعلى الدعاء في نفس الوقت. وهذا هو التمهيد: الفعل المنفتح على الغيب، فالأمة " لا تعجل " بل الله تعالى هو الذي " يعجل " الظهور لما تصل الأمة إلى مستوى الاستحقاق. لذلك فليس هناك توقع أو تنبؤ بالمعنى العلمي على غرار ما يجري في علوم الطبيعة أو بعض العلوم في مجال العلوم الإنسانية بل هناك انتظار: انتظار الفرج . فهنا يجب التمييز بين التنبؤ العلمي و بين الانتظار. فالانتظار يجسد حقيقة ابستمولوجية الى جانب الحقيقة العقائدية و الروحية ذات الأبعاد السياسية و الحضارية . فالانتظار هو وعي بقدرة العقل وبنسبيته في نفس الوقت ووعي بنسبية التاريخ. فالتاريخ مرجعية ضرورية ولكنها ليست كافية. في هذا السياق يمكن القول بأن ولاية الفقيه تجاوزت فلسفة هيجل التي يدعي الفكر الغربي بأنه لا يمكن تجاوزها. ويكمن القول بأن التمهيد بقيادة ولاية الفقيه يتجاوز من حيث الطاقة ومن حيث كونية الهدف، كل الممارسات التي تسعى إلى تغيير التاريخ من فلسفة ماركسية ولبيرالية وغيرهما. مرجعية هذه الفلسفات لا تتجاوز التاريخ، فالتاريخ مطلق من منظور هذه الفلسفات، لذلك لم تجد هذه الفلسفات حلا لمشكلة حرية الإنسان ومسؤوليته في تغيير التاريخ، فالحتمية مطلقة، هذه النزعة التاريخية أو ميتافيزيقا التاريخ (تأليه التاريخ) تتناقض مع تدخل الإنسان ومسؤوليته على مجرى التاريخ و تتناقض مع الثورة والتغيير، فللتمكن من التغيير يجب القيام بالقطيعة في مجرى التاريخ، وللتمكن من ذلك يجب النظر إلى الإنسان في بعده الروحي والغيبي (كما جاء في دستور الجمهورية الإسلامية) و ليس الإنسان كمجرد مجموع للعلاقات الاجتماعية. أي الإنسان كمجرد كائن اجتماعي يستمد كل حقيقته من المجتمع أو من التاريخ.
و هذا ما جعل كل النظريات الفلسفية التي تؤسس للأنظمة السياسية الماركسية و اللبرالية تستنزف طاقتها و تسير في مسار التنظر لموت الايديولوجيا ونهاية التاريخ بدلا من التنظير لحركة التاريخ وانفتاحه على ما يتجاوزه. فالإنسان في هذه الفلسفات والأنظمة لا يملك مصيره بيده لأن اختزال الإنسان في دائرة المنتوج الاجتماعي والمنتوج التاريخي يحوله إلى مجرد ضحية للتاريخ و ليس فاعلا في التاريخ.
هذه الرؤية تتناقض مع حقيقة ولاية الفقيه و دولتها و مجتمعها، فولاية الفقيه هي التي توجه الصيرورة التاريخية عن طريق التمهيد وعن طريقة إستراتيجية التمهيد القائمة على التبصر بالأحداث وعلى القيم العقائدية والأخلاقية الموجهة للتاريخ: توجيه الصيرورة نحو مرحلة استحقاق الإمداد الغيبي. ومعنى هذا أنه يجب إعادة النظر بصورة جذرية في كل النظريات الاجتماعية والسياسية وفي كل فلسفات التاريخ ونظريات التقدم المؤسسة والموجهة لهذه النظريات الاجتماعية.
يرى جان إيف لاكوست في هذا السياق أن هناك فرق بين الطوباوية و المهدوية.ظهور المهدي هو ظهور فجائي وانبثاقي. فالانتظار حسب هذه الرؤية يتم خارج أي تمهيد أو تنبؤ. في حين أن الطوباوية هي من صنع الإنسان. لذلك فلا وجود للانتظار في العلاقة الطوباوية للإنسان بالمستقبل.
إن مفهوم الانتظار كما تنظره وتمارسه ولاية الفقه يختلف عن هذا الطرح. لا شك أن الظهور كما أشرنا فيما سبق ليس مجرد نتيجة حتمية لعوامل تاريخية واجتماعية وسياسية سابقة عليه. فالظهور انبثاق، لكن علاقة الامة بعصر الظهور علاقة مسؤولية وفعل لان الظهور امداد غيبي لا يتحقق بدون استحقاق الانسان لهذا الامداد الغيبي، ففي هذا السياق حولت ولاية الفقيه الحالة الانتظارية (بمعناها المنفعل والسلبي) إلى حالة تمهيدية.
وهنا تتجلى عطاءات ولاية الفقيه وحقيقة التمهيد وحقيقة النظام السياسي الذي تقوم على أساسه عملية التمهيد، فإذا كانت الأنظمة السياسية القائمة على النزعة التاريخية أي ما يسمى بميتافيزيقيا النزعة التاريخية، لا تتمتع بزمام المبادرة والمسؤولية ولا تتجاوز حدود نوع من الانتظار يمكن أن نسميه بالانتظار السلبي. أي المجتمع ينتظر كل شيء من التاريخ، إذا كان الأمر كذلك، فإن الرؤية التي تنظرها وتمارسها ولاية الفقيه في إيران من خلال دولة التمهيد، هي رؤية سياسية وثقافية تقوم على أساس تاريخ منفتح على ما يتجاوزه. فالتاريخ، في منظور ولاية الفقيه، ليس مطلقا (لأن المطلق هو الله تعالى) وليس حتمية قاهرة. فالإنسان يتمتع بالقدرة على تغيير التاريخ بدلا من الخضوع له أو الذوبان فيه كتاريخ محايث ينفي الغيب.
فإنسان التمهيد هو إنسان مسؤول وملتزم عن اقتناع ذاتي عقائدي بمتطلبات التمهيد. هذه الحالة العقائدية والأخلاقية والنفسية تقتضي نظاما سياسيا نوعيا لا يقوم على مرجعية 'كل مبهم' أصم كالتاريخ أو المجتمع بل يقوم على مسؤولية الإنسان على المجتمع وعلى التاريخ بفضل علاقته «أي الإنسان» بالله تعالى. فالتمهيد نتيجة لذات تتفاعل عقائديا وسياسيا مع المجتمع ومع التاريخ ومع القيم الملازمة لدولة الانتظار دولة التمهيد.
لذالك فالنظام السياسي الذي يقود دولة التمهيد ليس نظاما سياسيا قائما على الأغلبية كمرجعية مطلقة على غرار كل أنواع الديمقراطية في الأنظمة الغربية، بل هو نظام يقوم على الديمقراطية الدينية التي لا تنفي مفهوم الأغلبية بل تضعه في سياق المرجعية الضرورية والكافية: الدين الموحى. فالتمهيد مسؤولية كونية لا يِؤسس لتغيير جزئي بل يؤسس لتغييرات كونية كبرى أسس لها كل الأنبياء(علیهم السلام). لذالك يقتضي التمهيد علاقة انتمائية والتزامية عميقة بين المجتمع والدولة على غرار الديمقراطية الدينية بقيادة ولاية الفقيه. وهذا ماجعل دولة التمهيد قوة تقف في حالة التزامية صارمة، في طريق مشروع الغرب في العالم الإسلامي.
فدولة ولاية الفقيه قد جسدت المهدوية من زاوية أنها لم تخضع للتاريخ المهيمن بل تتمتع الدولة بالطاقة المهدوية التي«تجتثها» من محايثة التاريخ وتفتحها على آفاق استحقاق الإمداد الغيبي. فولاية الفقيه تتغلب باستمرار على التاريخ المهيمن، تاريخ القوة والهدم والفوضى والعنف بفضل« الاجتثاث المهدوي ».
لقد حولت ولاية الفقيه الزمان السياسي والزمان التاريخي إلى زمان مهدوي عن طريق الثورة ودولة الثورة. أي عن طريق التمهيد فالزمان التاريخي أصبح في إيران زمان الفعل والحركة بفضل الرفض والنقد النابعان من القيم المهدوية. كما أن الزمان التاريخي أصبح زمان الآفاق لا زمان النهايات والرعب من المستقبل: زمان الآفاق بفضل طموح الشعب الإيراني إلى مستوى الاستحقاق. ذالك الطموح الذي تصدق عليه صفة «الاجتثاث» المهدوي. أي اجتثاث الأمة من الحتمية التاريخية القاهرة ومن المحايثة القاهرة للواقع والتاريخ.
وما بعد هذا الطرح لعلاقة الأمة بالتاريخ وبالإمام المهدي(عح) ما أبعد هذا الطرح عن موقف الفلاسفة المنظرين للمهدوية اليهودية الذين يرون بأن الخلاص هو انبثاق للتعالي (أي الغيب) فوق التاريخ، وهو انبثاق يهدم التاريخ . يقول جرسوم شوليم «في النصوص التوراتية مجيء (ظهور؟) المهدي ليس نتيجة لأفعال الإنسان و أعماله... فكل ما يجب أن يأتي يجب أن يأتي من الله» ويعلق م.بوبر (M.Buber) على هذه الرؤية بقوله «... يجب التمييز بين المهدوية والطوباوية، حيث أن المهدوية متعلقة بالإرادة الإلهية والطوباوية متعلقة بالإرادة الإنسانية...».
وهذا عكس المهدوية الإسلامية حيث تنظر ولاية الفقيه وتمارس علاقة الأمة بالإمام المهدي على أنها علاقة انتظار وتطلع وجذب. أي علاقة تعطي للإنسان روح المبادرة والمسؤولية والفعل أي التمهيد.
إن المفكرين الذين يجردون علاقة الإنسان بالمهدوية من المسؤولية والفعل لا يميزون بين المهدوية والطوباوية. فإذا كانت الطوباوية تستخدم الإنسان كوسيلة في عالم مجرد لا علاقة له بحرارة الأحداث والعوامل التاريخية فإن المهدوية كما صاغتها ولاية الفقيه وكما تمارسها من خلال الدولة تقتضي حضور إرادة الإنسان ومسؤوليته بعمق عقائدي وسياسي يجب أن يصل إلى تفجير الثورة وتأسيس دولة الثورة. وهكذا تتجلى اللاهوتية بالمعنى المبتذل في المهدوية اليهودية. في حين أن المهدوية الإسلامية إذا كانت خاضعة خضوعا مطلقا لإرادة الله، فإنها تفتح المجال واسعا لتدخل الإنسان ليصل إلى مستوى استحقاق الإمداد الغيبي. فمن هذا المنظور إن التمهيد الذي تنظره وتمارسه ولاية الفقيه يتجاوز كل أنواع المثالية ويتجاوز الطوباوية من حيث أن الظهور كإمداد غيبي يحقق الكونية التي لم تحلم بها كل نظريات المدن الفاضلة. فالتمهيد الذي تمارسه الجمهورية الإسلامية يرفض الوعود التاريخية التي تحتجز المستقبل في حتمية قاهرة. التمهيد يتجاوز هذه الوعود ليمهد لوعد أوسع تستبطن الأمة متطلباته بصورة عقائدية عن اقتناع داخلي.
الخاتمة
وهكذا قد تجاوزت ولاية الفقيه في المجال السياسي والرؤية الفلسفية إلى التاريخ، تجاوزت فلسفة أفلاطون و هيجل وماركس. لقد انتقدت ولاية الفقيه الرؤية الفلسفية التي تنظر إلى التاريخ على أنه يخضع لقوانين تحدد مجرى الأحداث. هذه الرؤية تنفي مسؤولية الإنسان وتشل التقدم بإخضاع الإنسان فردا ومجتمعا إلى حتمية التاريخ القاهرة. هذه الرؤية جعلت فلسفة أفلاطون تخضع قيادة المدينة إلى الخاصة. الخاصة التي تنفي ذات الإنسان و تذيبه في المجتمع. أما هيجل فقد أسس للاستبداد عندما جعل الدولة تجسيدا للمطلق. في حين أن ماركس حول فرضياته إلى نسق مغلق ولم يستطع أن يبرر فلسفيا قدرة الإنسان على التغيير.
فولاية الفقيه تؤكد من خلال التمهيد أن الإنسان مصيره بيده وأنه قادر على إحداث التغيرات الكبرى، لأن الإنسان ليس مجرد حقيقة اجتماعية أو تاريخية بل هو ذو بعد روحي، والتاريخ لا يكفي نفسه بنفسه فمعنى التاريخ مرتبط بما يتجاوزه. فلم يحول التمهيد إيران إلى قوة محلية وإقليمية تسير في مسار الكونية إلا على أساس هذه الرؤية التي تفتح أمام الإنسان الطريق والآفاق لاستحقاق الإمداد الغيبي. هذه الرؤية زلزلت فلسفة هيجل في قم، فأثينا رمز مرجعية الفكر الغربي وينا Iena رمز فلسفة هيجل التي يدعي الغرب بأنه لا يمكن تجاوزها، هاتان المدينتان انهارتا في قم رمز الحقيقة العقلية والعرفانية والسياسية.ومعنى هدا انه لا مجال اليوم للاختيار بين قم ووشنطن لان قم هي النقيض الكوني الذي لايعرف التركيب فقم هي البديل الكوني.